الحب ما هو

الحب ما هو؟

كتاب اناسيد الاثم والبراءة
د . مصطفى محمود


لو سألنى أحدكم. ما هى علامات الحب وما شواهده؟ لقلت بلا تردد أن يكون القرب من المحبوبة أشبه بالجلوس فى التكييف فى يوم شديد الحرارة وأشبه باستشعار الدفء فى يوم بارد. لقلت هى الألفة ورفع الكلفة وأن تجد نفسك فى غير حاجة إلى الكذب. وأن يرفع الحرج بينكما، فترى نفسك تتصرف على طبيعتك دون أن تحاول أن تكون شيئا آخر لتعجبها. وأن تصمتا أنتما الاثنان فيحلو الصمت وأن يتكلم أحدكما فيحلو الإصغاء. وأن تكون الحياة معا هى مطلب كل منكما قبل النوم معا. وألا يطفئ الفراش هذه الأشواق ولا يورث الملل ولا الضجر وإنما يورث الراحة والمودة والصداقة. وأن تخلو العلاقة من التشنج والعصبية والعناد والكبرياء الفارغ والغيرة السخيفة والشك الأحمق والرغبة فى التسلط، فكل هذه الاشياء من علامات الأنانية وحب النفس وليست من علامات حب الآخر. وأن تكون السكينة والأمان والطمأنينة هى الحالة النفسية كلما التقيتما وألا يطول بينكما العتاب ولا يجد أحدكما حاجة إلى اعتذار الآخر عند الخطأ، وإنما تكون السماحة والعفو وحسن الفهم هى القاعدة. وألا تشبع أيكما قبلة أو عناق أو أى مزاولة جنسية ولا تعود لكما راحة إلا فى الحياة معا والمسيرة معا وكفاح العمر معا.
ذلك هو الحب حقا.
ولو سألتم. أهو موجود ذلك الحب. وكيف نعثر عليه؟ لقلت نعم موجود ولكن نادر. وهو ثمرة توفيق إلهى وليس ثمرة اجتهاد شخصى.
وهو نتيجة انسجام طبائع يكمل بعضها البعض الآخر ونفوس متآلفة متراحمة بالفطرة.
وشرط حدوثه أن تكون النفوس خيرة أصلا جميلة أصلا، والجمال النفسى والخير هما المشكاة التى يخرج منها هذا الحب، وإذا لم تكن النفوس خيرة فإنها لا تستطيع أن تعطى فهى أصلا فقيرة مظلمة ليس عندها ما تعطيه.
ولا يجتمع الحب والجريمة أبدا إلا فى الأفلام العربية السخيفة المفتعلة. وما يسمونه الحب فى تلك الأفلام هو فى حقيقته شهوات ورغبات حيوانية ونفوس مجرمة تتستر بالحب لتصل إلى أغراضها.
أما الحب فهو قرين السلام والأمان والسكينة وهو ريح من الجنة أما الذى نراه فى الأفلام فهو نفث الجحيم.
وإذا لم يكن هذا الحب قد صادفكم وإذا لم يصادفكم منه شىء فى حياتكم فالسبب أنكم لستم خيرين أصلا فالطيور على أشكالها تقع والمجرم يتداعى حوله المجرمون والخير الفاضل يقع على شاكلته. وعدل الله لا يتخلف فلا تلوموا النصيب والقدر والحظ وإنما لوموا أنفسكم.
وقد يمتحن الله الرجال الأبرار بالنساء الشريرات أو العكس وذلك باب آخر له حكمته وأسراره.
وقد سلط الله المجرمين والقتلة على أنبيائه وامتحن بالمرض أيوب وبالفتنة يوسف وبالفراعين الغلاظ موسى وبالزوجات الخائنات نوحا ولوطا.
وأسرار الفشل والتوفيق عند الله. وليس كل فشل نقمة من الله وقد قطع الملك هيرودوس رأس النبى يوحنا المعمدان وقدمه مهرا لبغى عاهرة.
ولم يكن هذا انتقاصا من قدر يوحنا عند الله. وإنما هو البلاء فنرجو أن يكون فشلنا وفشلكم هو فشل كريم من هذا النوع من البلاء الذى يمتحن النفوس ويفجر فيها الخير والحكمة والنور وليس فشل النفوس المظلمة التى لا حظ لها ولا قدرة على حب أو عطاء.
ونفوسنا قد تخفى أشياء تغيب عنا نحن أصحابها، وقد لا تنسجم امرأة ورجل لأن نفسيهما مثل الماء والزيت متنافرتان بالطبيعة، ولو كانا مثل الماء والسكر لذابا وامتزجا ولو كانا مثل العطر والزيت لذابا وامتزجا. والمشكلة أن يصادف الرجل المناسب المرأة المناسبة.
وذلك هو الحب فى كلمة واحدة: التناسب. تناسب النفوس والطبائع قبل تناسب الأجسام والأعمار والثقافات.
وقد يطغى عامل الخير حتى على عامل التناسب فنرى الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام يتزوج بمن تكبره بخمسة وعشرين عاما ويتزوج بمن تصغره بأربعين عاما فتحبه الاثنتان خديجة وعائشة كل الحب ولا تناسب فى العمر ولا فى الثقافة بينهما فهو النبى الذى يوحى إليه وهما من عامة الناس.
ونراه يتزوج باليهودية صفية صبيحة اليوم الذى قتل فيه جيشه زوجها وأباها وأخاها وشباب قومها وزهرة رجالهم واحدا واحدا على النطع فى خيبر. يتزوجها بعد هذه المذبحة فنراها تأوى إلى بيته وتسلم له قلبها مشغوفة مؤمنة ولم تكد دماء قومها تجف. فكيف حدث هذا ولا تناسب وإنما أحقاد وأضغان وثأر.
إنه الخير والخلق الأسمى فى نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذى قهر الظلمة وهو الذى حقق المعجزة دون شروط.
إنه النور الذى خرج من مشكاة هذا القلب المعجز فصنع السحر وأسر القلوب وطوع النفوس حتى مع الفوارق الظاهرة وعدم التناسب ومع الأضغان والاحقاد والثأر.
إنما نتكلم نحن العاديين عن التناسب.
أما فى مستوى الأنبياء فذلك مستوى الخوارق والمعجزات. وما زالت القلوب الخيرة والنفوس الكاملة التى لها حظ من هذا المستوى قادرة على بلوغ الحب وتحقيق الانسجام فى بيوتها برغم الفروق الظاهرة فى السن والثقافة.
ذلك أن الحب الذى هو تناسب وانسجام بالنسبة لنا نحن العاديين. هو فى المستوى الأعلى من البشر نفحة وهبة إلهية.
ومن ذا الذى يستطيع أن يقيد على الله نفحاته أو يشترط عليه فى هباته.
وإذا شاء الله أن يرحم أحدا فمن ذا الذى يستطيع أن يمنع رحمته؟
والحب سر من أعمق أسرار رحمته.
ولا ينتهى فى الحب كلام.

 نشرت عام 1982 من كتاب «أناشيد الإثم والبراءة».

تعليقات